الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)
وظهر عليهم فساروا وقطعوا قنطرةً بينهما ليمتنع من طلبهم وقصدوا نحو أصبهان، فأقاموا عندها حتى قووا واستعدوا، ثم أقبلوا حتى مروا بفارس وبها عمر، فقطعوها في غير الموضع الذي هم به، أخذوا على سابور ثم على أرجان حتى أتوا الأهواز.فقال مصعب: العجب لعمر! قطع هذا العدو الذي هو بصدد محاربته أرض فارس فلم يقاتلهم، ولو قاتلهم وفر كان أعذر له. وكتب إليه: يا ابن معمر ما أنصفتني، تجبي الفيء وتحيد عن العدو، فاكفني أمرهم.فسار عمر من فارس في أثرهم مجداً يرجو أن يلحقهم قبل أن يدخلوا العراق، وخرج مصعب فعسكر عند الجسر الأكبر وعسكر الناس معه، وبلغ الخوارج وهم بالأهواز إقبال عمر إليهم وأن مصعباً قد خرج من البصرة إليهم، فقال لهم الزبير بن الماحوز: من سوء الرأي وقوعكم بين هاتين الشوكتين، انهضوا بنا إلى عدونا نلقهم من وجه واحد. فسار بهم فقطع بهم أرض جوخي والنهروانات فأتى المدائن وبها كردم بن مرشد القرادي، فشنوا الغارة على أهل المدائن يقتلون الرجال والنساء والوالدان ويشقون أجواف الحبالى. فهرب كردم، وأقبلوا إلى ساباط ووضعوا السيف في الناس يقتلون، وأرسلوا جماعة إلى الكرخ فلقوا أبا بكر بن مخنف فقاتلهم قتالاً شديداً، فقتل أبو بكر وانهزم أصحابه، وأفسد الخوارج في الأرض.فأتى أهل الكوفة أميرهم، وهو الحارث بن أبي ربيعة ولقبه القباع، فصاحوا به وقالوا: اخرج فإن العدو قد أظل علينا ليست له بقية. فخرج حتى نزل النخلية فأقام أياماً، فوثب إليه إبراهيم بن الأشتر فحثه على المسير، فسار حتى نزل دير عبد الرحمن فأقام به حتى دخل إليه شبث بن ربعي فأمره بالمسير، فلما رأى الناس بطء مسيره رجزوا به فقالوا: فسار من ذلك المكان، فكان كلما نزل منزلاً أقام به حتى يصيح به الناس، فبلغ الفرات في بضعة عشر يوماً، فأتاها وقد انتهى إليها الخوارج، فقطعوا الجسر بينهم وبينه وأخذوا رجلاً اسمه سماك بن يزيد ومعه بنت له فأخذوها ليقتلوها، فقالت لهم: يا أهل الإسلام! إن أبي مصاب فلا تقتلوه، وأما أنا فجارية والله ما أتيت فاحشةً قط ولا آذيت جارةً لي ولا تطلعت ولا تشرفت قط.فلما أرادوا قتلها سقطت ميتة فقطعوها بأسيافهم، وبقي سماك معهم حتى أشرفوا على الصراة، فاستقبل أهل الكوفة فناداهم: اعبروا إليهم إليهم فإنهم قليل خبيث فضربوا عنقه وصلبوه.فقال إبراهيم بن الأشتر للحارث: اندب معي الناس حتى أعبر إلى هؤلاء الكلاب فأجيئك برؤوسهم. فقال شبث وأسماء بن خارجة ويزيد بن الحارث ومحمد بن عمير وغيرهم: أصلح الله الأمير، دعهم فليذهبوا؛ وكأنهم حسدوا إبراهيم.فلما رأى الخوارج كثرة الناس قطعو الجسر، واغتنم ذلك الحارث فتحبس ثم جلس للناس فقال: أما بعد فإن أول القتال الرمية بالنبل وإشراع الرماح والطعن ثم الطعن شزراً ثم السلة آخر ذلك كله. فقال له رجل: قد أحسن الأمير الصفة ولكن متى نصنع هذا وهذا البحر بيننا وبينهم؟ فمر بهذا الجسر فليعقد ثم عبرنا إليهم، فإن الله سيريك ما تحب.فعقد الجسر وعبر الناس، فطارد الخوارج حتى أتو المدائن، وطاردت بعض خليهم عند الجسر طراداً ضعيفاً فرجعوا، فأتبعهم الحارث عبد الرحمن بن مخنف في ستة آلاف ليخرجهم من أرض الكوفة، وقال له: إذا وقعوا في أرض البصرة فاتركهم. فسار عبد الرحمن يتبعهم حتى وقعوا في أرض أصبهان، فرجع عنهم ولم يقاتلهم، وقصدوا الري وعليها يزيد بن الحارث بن رويم الشيباني، فقاتلهم فأعان أهل الري الخوارج، فقتل يزيد وهرب ابنه حوشب، ودعاه أوه ليدفع عنه فلم يرجع، فقال بعضهم: يعني أن عيسى بن مصعب لم يفر عن أبيه بل قاتل عنه ومعه حتى قتل.وقال بشر بن مروان يوماً وعنده حوشب هذا وعكرمة بن ربعي: من يدلني على فرس جواد؟ فقال عكرمة: فرس حوشب فإنه نجا عليه يوم الري. وقال بشر أيضاً يوماً: من يدلني على بغلة قوية الظهر؟ فقال حوشب: بغلة واصل بن مسافر، كان عكرمة يتهم بامرأة واصل، فتبسم بشر وقال: لقد انتصفت.ولما فرغ الخوارج من الري انحطوا إلى أصبهان فحاصروها وبها عتاب بن ورقاء، فصبر لهم، وكان يقاتلهم على باب المدينة ويرمون من السور بالنبال والحجارة. وكان مع عتاب رجل من حضرموت يقال له أبو هريرة شريح، فكان يحمل عليهم ويقول: فلما طال ذلك على الخوارج كمن له رجل منهم ذات يوم فضربه بالسيف على حبل عاتقه فصرعه، فاحتمله أصحابه وداووه حتى برأ وخرج إليهم على عادته.ثم إن الخوارج أقامت عليهم أشهراً حتى نفدت أطعمتهم واشتد عليهم الحصار أصابهم الجهد الشديد، فقال لهم عتاب: أيها الناس قد نزل بكم من الجهد ما ترون وما بقي إلا أن يموت أحكم على فراشه فيدفنه أخوه إن استطاع، ثم يموت هو فلا يجد من يدفنه ولا يصلي عليه، والله ما انتم بالقلي وإنكم الفرسان الصلحاء، فاخرجوا بنا إلى هؤلاء وبكم قوة وحياة قبل أن تضعفوا على الحركة من الجهد، فو الله إني لأرجو إن صدقتموهم أن تظفروا بهم. فأجابوه إلى ذلك.
وأقام ابن الحر بمنزله على شاطئ الفرات إلى أن مات يزيد ووقعت الفتنة، فقال: ما أرى قريشاً تنصف، أين أبناء الحرائر؟ فأتاه كل خليع، ثم خرج إلى لمدائن فلم يدع مالاً قدم به للسلطان إلا أخذ منه عطاءه وعطاء أصحابه ويكتب لصاحب المال بذلك، ثم جعل يتقصى الكور على مثل ذلك، إلا أنه لم يتعرض لمال أحد ولا ذمة. فلم يزل كذلك حتى ظهر المختار وسمع ما يعمل في السواد، فأخذ امرأته فحبسها، فأقبل عبيد الله في أصحابه إلى الكوفة فكسر باب السجن وأخرجها وأخرج كل امرأة فيه، وقال في ذلك: وهي طويلة.وجعل يعبث بعمال المختار وأصحابه، فأحرقت بهمدان داره ونهبوا ضيعته، فسار عبيد الله إلى ضياع همدان فنهبها جميعها، وكان يأتي المدائن فيمر بعمال جوخى فيأخذ ما معهم من المال، ثم يميل إلى الجبل، فلم يزل على ذلك حتى قتل المختار.وقيل: إنه بايع المختار بعد امتناع، وأراد المختار أن يسطو به فامتنع لأجل إبراهيم بن الأشتر. ثم سار مع ابن الأشتر إلى الموصل ولم يشهد معه قتال ابن زياد، اظهر المرض. ثم فارق ابن الأشتر وأقبل في ثلاثمائة إلى الأنبار فأغار عليها وأخذ ما في بيت مالها. فلما فعل ذلك أمر المختار بهدم داره وأخذ امرأته، ففعل ما تقدم ذكره. وحضر مع مصعب قتال المختار وقتله، فلما قتل المختار قال الناس لمصعب في ولايته الثانية: إنا لا نأمن أن يثب ابن الحر بالسواد كما كان يفعل بابن زياد والمختار، فحبسه، فقال: وقال: يعني مسلم بن عمرو والد قتيبة، والمهلب بن أبي صفرة.وكلم عبيد الله قوماً من وجوه مذحج ليشفعوا له إلى مصعب، وأرسل إلى فتيان مذحج وقال: البسوا السلاح واستروه، فإن شفعهم مصعب فلا تعترضوا لأحد، وإن خرجوا ولم يشفعهم فاقصدوا السجن فإني سأعينكم من داخل.فلما شفع أولئك النفر فيه شفعهم مصعب وأطلقه، فأتى منزله وأتاه الناس يهنئونه، فقال لهم: إن هذا الأمر لا يصلح إلا بمثل الخلفاء الماضين الأربعة، ولم نر لهم فينا شبيهاً فنلقي إليه أزمتنا، فإن كان من عز بز فعلام نعقد في أعناقنا بيعةً وليسوا بأشجع منا لقاء ولا أعظم مناعة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا طاعة لمخلوق في معصية الله تعالى، وكلهم عاصٍ مخالف قوي الدنيا ضعيف الآخرة، فعلام تستحل حرمتنا ونحن أصحاب النخلية والقادسية وجلولاء ونهاوند، نلقى الأسنة بنحورنا، والسيوف بجباهنا، ثم لا يعرف حقنا وفضلنا؟ فقاتلوا عن حريمكن، فإني قد قلبت ظهر المجن وأظهرت لهم العداوة ولا قوة إلا بالله. وخرج عن الكوفة وحاربهم وأغار.فأرسل إليه مصعب سيف بن هانئ المرادي، فعرض عليه بادوريا وغيرها ويدخل في الطاعة، فلم يجب إلى ذلك، فبعث إليه أيضاً حريث بن يزيد، فقتله عبيد الله، فبعث إليه مصعب الحجاج بن جارية الخثعمي ومسلم بن عمرو فلقياه بنهر صرصر، فقاتلهما فهزمهما، فأرسل إليه مصعب يدعوه إلى الأمان والصلة وأن يزليه أي بلد شاء، فلم يقبل، وأتى نرسى ففر دهقانها بمال الفلوجة، فتبعه ابن الحر حتى مر بعين تمر وعليها بسطام بن مصقلة ابن هبيرة الشيباني، فالتجأ إليهم الدهقان، فخرجوا إلى عبيد الله وأسر أيضاً بسطام بن مصقلة وناساً كثيراً، وبعث ناساً من أصحابه فأخذوا المال الذي مع الدهقان وأطلق الأسرى.ثم إن عبيد الله أتى تكريت فأقام يجبي الخراج، فبعث إليه مصعب الأبرد بن قرة الرياحي والجون بن كعب الهمداني في ألف، وأمدهم المهلب بيزيد بن المغفل في خمسمائة، فقال لعبيد الله رجل من أصحابه: قد أتاك جمع كثير فلا تقاتلهم. فقال: وقاتلهم عبيد الله يومين وهو في ثلاثمائة، ولما كان عند المساء تحاجزوا وخرج عبيد الله من تكريت وقال؟لأصحابه: غني سائر بكم إلى عبد الملك بن مروان فتجهزوا، وقال: إني خائف أن أموت ولم أذعر مصعباً وأصحابه. وسار نحو الكوفة فبلغ كسكر فأخذ بيت مالها، ثم أتى الكوفة فنزل بحمام جرير، فبعث إليه مصعب عمر بن عبيد الله بن معمر فقاتله، فخرج إلى دير الأعور، فبعث إليه مصعب حجار بن أبجر، فانهزم حجار، فشتمه مصعب وضم إليه الجون بن كعب الهمداني وعمر بن عبيد الله بن معمر، فقاتلوه بأجمعهم وكثرت الجراحات في عسكر عبيد الله بن الحر وعقرت خيولهم، فانهزم حجار، ثم رجع فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى أمسوا وخرج ابن الحر من الكوفة.وكتب مصعب إلى يزيد بن الحارث بن رويم الشيباني، وهو بالمدائن، يأمره بقتال ابن الحر، فقدم ابنه حوشباً، فلقيه بباجسري فهزمه عبيد الله وقتل فيهم، واقبل ابن الحر إلى المدائن فتحصنوا منه، فخرج عبيد الله فوجه إليه الجون بن كعي الهمداني وبشر بن عبد الله الأسدي، فنزل الجون بحولايا، وقدم بشر إلى تامراً فلقي ابن الحر فقتله ابن الحر وهزم أصحابه، ثم لقي الجون بن كعب بحولايا فخرج إليه عبد الرحمن بن عبد الله فقتله ابن الحر وهزم أصحابه، وخرج إليه بشير بن عبد الرحمن بن بشير الجلي فقتله بسوراء قتالاً شديداً، فرجع عنه بشير، وأقام ابن الحر السواد يغير ويجبي الخراج.ثم لحق بعبد الملك بن مروان، فلما صار إليه أكرمه وأجلسه معه على السرير وأعطاه مائة ألف درهم وأعطى أصحابه مالاً، فقال له ابن الحر ليوجه معه جنداً يقاتل بهم مصعباً، فقال له: سر بأصحابك وادع من قدرت عليه وأنا ممدك بالرجال.فسار بأصحابه نحو الكوفة فنزل بقرية إلى جانب الأنبار، فاستأذنه أصحابه في إتيان الكوفة، فأذن لهم وأمرهم أن يخبروا أصحابه بقدومه ليخرجوا إليه. فبلغ ذلك القيسية فأتوا الحارث بن أبي ربيعة عامل ابن الزبير بالكوفة فسألوه أن يرسل معهم جيشاً يقاتلون عبيد الله ويغتنمون الفرصة فيه بتفرق أصحابه، فبعث معهم جيشاً كثيفاً، فساروا فلقوا ابن الحر، فقال لا بن الحر أصحابه: نحن نفر يسير وهذا الجيش لا طاقة لنا فيه. فقال: ما كنت لأدعهم، وحمل عليهم وهو يقول: ثم عطفوا عليه فكشفوا أصحابه وحاولوا أن يأسروه فلم يقدروا على ذلك، وأذن لأصحابه في الذهاب، فذهبوا فلم يعرض لهم أحد، وجعل بقاتل وحده، فحمل عليه رجل من باهلة يكنى أبا كدية فطعنه وجعلوا يرمونه ويكتبون عليه ولا يدنون منه، وهو يقول: أهذه نبل أم مغازل؟ فلما أثخنته الجراح خاض إلى معبر هناك فدخله ولم يدخل فرسه، فركب السفينة ومضى به الملاح حتى توسط الفرات، فأشرفت عليه الخيل، وكان معه في السفينة نبط، فقالوا لهم: إن في السفينة طلبة أمير المؤمنين، فإن فاتكم قتلناكم، فوثب ابن الحر ليرمي نفسه في الماء، فوثب إليه رجل عظيم الخلق فقبض على يديه وجراحاته تجري دماً وضربه الباقون بالمجاذيف، فلما رأى أنه يقصد به نحو القيسية قبض على الذي معه وألقى نفسه معه في الماء فغرقا.وقيل في قتله: إنه كان يغشى مصعب بن الزبير بالكوفة فرآه يقدم عليه غيره، فكتب إلى عبد الله بن الزبير قصيدةً يعاتب فيها مصعباً ويخوفه مسيره إلى ابن مروان يقول فيها: فحبسه مصعب، وله معه معاقبات من الحبس، ثم إنه قال قصيدة يهجو فيها قيس عيلان، منها: فأرسل زفر بن الحارث الكلائي إلى مصعب: إني قد كفيتك قتال ابن الزرقاء، يعني عبد الملك بن مروان، وابن الحر يهجو قيساً، ثم إن نفراً من بني ليم أسروا ابن الحر، فقال: إنما قلت: فقتله رجل منهم يقال له عياش.
|